فحول الشعر المعاصر (2)
تتمة للجزء الأول نقول ما يلي:
ومن العراق الصامد نجد الشاعرة "حنان الدليمي" التي لا يفوتها مقاسمة هموم الشعب السوري البطل فتقول داعية للصبر، ومبشرة بقرب النصر:
خسِئتْ يدُ الملعونِ بشار وتبْ
وأتاهُ أمرُ اللهِ والوعدُ اقْتَربْ
أينَ المفرُ أيا خنازيرًا طغتْ
منْ معقل الثوارِ مفخرةِ العَرَبْ
منها المروءة والشهامة والإبا
ومنارةٌ للعلمِ والتقوى حَلَبْ
صبرًا جميلًا فالكروبُ تَعاظمتْ
وبصبر أهل الحقِ تَنفرجُ الكُرَبْ
مهما استبدَ الظلْمُ في أرجائها
ستعودُ شامُ الياسمينةِ والعِنَبْ
لِتقصَ عن أهلِ الفراتِ حكاية
تُصغي لها الأجيالُ طوعًا عن كَثَبْ
أرضٌ ولودٌ للرجالِ وتربةٌ
الرملُ فيها لا يُعادلُ بالذهَّبْ
وها أنت تقرأ بيتها العَلَمَ المفرد الذي يزن مئات القصائد فيصعقك الشعر من حيث لا تدري:
ورجوتُ قلبي أن يكفَ عن الهوى
فأجابني هلاّ كففتِ عن الحياةْ
ووالله إن لمعنى هذا البيت لوقعٌ على قلبي كبير، وإن لي معه لشأن.
وها هو ذا الشاعر المغربي "طارق المهتدي" حفيد أمير الشعراء شوقي وحفيد البارودي وحفيد عنترة والحطيئة والخنساء وهو رَبِيـــبٌ لِلْعُصُــورِ الْأَوَائِــلِ، هذا عملاقٌ آخر من الذين تُيِّمْتُ بمتابعتهم وقراءة أشعارهم، وهو يرى في نظمه للشعر طريقا ومنهجا واحدا عليه اتباعه فيقول مُعلنا عن مساره ونهجه في الشعر:
لَئِنْ لَفَّنِي الْعَصْرُ الْحَدِيثُ بِثَوْبِهِ
فَإِنِّي رَبِيـــبٌ لِلْعُصُــورِ الْأَوَائِــلِ
وها هي رائعته المليئة بالحزن والأسى والغنية عن أي تعليق:
أَخُوضُ عُبَابَ الْيَمِّ يَبْعُدُ سَاحِلُهْ
وَأَرْنُو إِلَى نَجْمٍ عَسَى أَتَنَاوَلُهْ
وَقَلْبِي بِهِ نَارٌ تَوَقَّدُ بِالدُّجَى
مِنَ السُّخْطِ تَغْلِي فِي الصُّدُورِ مَرَاجِلُهْ
وَأَنْصِبُ فِي الصَّحْرَاءِ خَيْمَةَ ظَاعِنٍ
وَقَدْ شَرَدَتْ عَنْهُ الْأَصِيلَ رَوَاحِلُهْ
يُبَاعِدُنِي ذَا الدَّهْرُ عَمَّنْ أُحِبُّهُمْ
وَيَبْعَثُ شَيْطَاناً عَلَيَّ أُقَاتِلُهْ
وَأَرَّقَنِي مَا قَدْ لَقِيتُ مِنَ الْأُلَى
مَقَامُهُمُو فِي الْقَلْبِ مَنْ ذَا يُطَاوِلُهْ
وَيُبْغِضُنِي قَوْمٌ وَلَا ذَنْبَ لِي سِوَى
طُمُوحِي إِلَى الْعَلْيَا وَمَجْدٍ أُحَاوِلُهْ
وَأُنْفِقُ عُمِرِي فِي التَّوَهُّمِ وَالرَّجَا
فَتَبْخَلُ أَيَّامِي بِمَا أَنَا سَائِلُهْ
وَأُحْسِنُ ظَنِّي وَالظُّنُونُ كَوَاذِبٌ
وَإِثْمٌ وَإِنَّ الظَّنَّ يُقْصِرُ بَاطِلُهْ
وَأَحْمِلُ أَثْقَالاً إِذَا مَا وَضَعْتَهَا
عَلَى جَبَلٍ بِالْحِمْلِ نَاءَتْ كَوَاهِلُهْ
يُزَيِّنُ لِي دَهْرِي قَبِيحاً مُذَمَّماً
وَيَزْعُمُ أَنَّ الْخِبَّ طَابَتْ شَمَائِلُهْ
وَتَعْرِضُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ نَوَازِلٌ
كَمَا عَرَضَتْ لِلزَّمْزَمِيِّ نَوَازِلُهْ
وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ يُخْلِفُ الْوَعْدَ إِنْ أَعِدْ
فَمَهْمَا أَقُلْ شَيْئاً فَإِنِّيَ فَاعِلُهْ
أَلَا أَيُّهَا السَّارُونَ فِي اللَّيْلِ بَلِّغُوا
شِكَايَةَ مَقْتُولٍ وَقَاضِيهِ قَاتِلُهْ
وَمَنْ مُبْلِغٌ إِيَّاهُ مِنَّا رِسَالَةً
وَإِنْ كَانَ لَا تُرْجَى لَدَيْنَا رَسَائِلُهْ
لَئِنْ يَبْكِ أَهْلُ الشِّعْرِ أَطْلَالَهُمْ أَسىً
فَمَنْ يَنْأَ عَنِّي لَيْسَ تُبْكَى مَنَازِلُهْ
وَلَسْتُ كَقَيْسٍ أَوْ كُثَيِّرِ عَزَّةٍ
وَلَا كَجَمِيلٍ إٍذْ لَحَتْهُ عَوَاذِلُهْ
وَلَكِنَّنِي مِنْ مَعْشَرٍ أَهْلِ رِفْعَةٍ
فَلَا يَمْحِضُونَ الْوِدَّ مَنْ لَا يُبَادِلُهْ
ومرة أخرى بعد هذا يدخل الغبطة والسور لقلوبنا بهذه القصيدة المرحة والماتعة:
أَرَى المَنابِرَ يَرقاهُنَّ شُعرُورُ
بادِي الفَهَاهةِ، جَمُّ اللَّحْنِ، مَغرُورُ
ما إنْ له معَ أهلِ الشِّعرِ آصِرةٌ
وما له مِن حُظوظِ الشِّعرِ قِطمِيرُ
يقولُ: هاؤُمُ شِعري... فِريةً عظُمتْ
مِن فِيه، وهْيَ حديثُ الإِفكِ والزُّورُ
فلا امرُؤُ القيسِ إنْ أَنشَدتَهُ طَرِبٌ
ولا الخليلُ الفَراهيديُّ مَسرُورُ
وكيفَ يُحسَبُ شِعراً ما تَفُوهُ بهِ
واللَّفْظُ مُنتحَلٌ والوزنُ مَكسُورُ؟!
وها هي الكبيرة الأخرى "نفين عزيز طينة" من وطننا فلسطين الأبيّة تُتحفنا بهذه الأبيات الثائرة في وجه الظلم والعدوان فتُنشد فتقول:
تضيقُ بنا الرزايا والمنونُ
وتعجبُ من عزيمتنا السجونُ
جُبلْنا بالنضالِ وبالتحدي
وليسَ كطيننا الجبارِ طينُ
فزيدوا قتلنا وعِمُوا احتلالا
هنا باقون ما دمعتْ عيونُ
سأنسجُ من خلايا العزم سيفا
يُغيرُ كما السباع ولا يلينُ
ويضربُ عرشَ إسرائيلَ ضربًا
تُدكُّ به المعاقلُ والحصونُ
أنا بنتُ المخيّم فاحذروني
وليسَ لغضبتي الحمراء دينُ
أنا بنتُ المخيم وانكساري
محالٌ كالسرابِ ولا يكونُ
فلسطينية والقدسُ أرضي
فلسطينية أنى أهونُ
وانظروا لها مرة أخرى ومسكُ شموخ الحب والكبرياء يفوح من أردانها وهي تقول:
أرى غيري بلوعتهم سُكارى
وكأسُ الشوقِ أغواهُمْ ودارا
وما مثلي يُصابُ بِمَسِّ عشقٍ
ولستُ أرى الهوى إلا غُبارا
وكم لي في الصبابة من ضحايا
وكم في سُهدهم باتوا حيارى
إخواني وأخواتي، أصدقائي وصديقاتي هنا يسكت القلم عن الكلام، هؤلاء خمسة من الشعراء من مختلف بقاع العالم العربي أدرجناهم في طرحنا هذا الصغير، وكشفنا بعض عبقريتهم في الشعر كلّ على حدة، ولكيلا أثقل على القارئ أكثر من هذا فسأدع إكمال الطرح إلى مرة أخرى إذا تيسر لي ذلك بحول الله.
وفي الطرح القادم هنالك شعراء آخرون من طينة الشاعر الأردني المرموق سعيد يعقوب أو كما يُسمى شيخ شعراء العصر وأيضا الشاعر محمود موزة من سوريا والشاعر أحمد حيدة من المغرب والشاعر العملاق جواد يونس من فلسطين وآخرون، فإلى لقاءٍ آخر بإذن الله.
اقرأ الجزء الأول من هنا.
(كُتبت هذه الورقات في يونيو سنة 2016)
```
تعليقات
إرسال تعليق