-شَيْء من النقد الفني-
بينَ أرفُفِ مكتبيتي كتبٌ كثيرة كان أهدانيها أصحابها ومُؤلفّوها قبل سنوات، كنتُ التقيت بهم في بعض التظاهرات والأماسي الشعرية، فقرأتها آنذاكَ قراءةً شبه نقدية إذ استثارني بعض ما وجدتُ فيها، فأحببتُ التعليق عليه، وإبداء الرّأي فيه، ولقد اخترتُ منها أربعَةَ كتبٍ شعرية، صغيرة الحجم، لأتحدّث عنها للقرّاء وأُشركهم معي فيما بدا لي فيها من رأي.
وسأبدأ بديوان لشاعر مغمور أظنّه من مدينة "أيت أورير" كنتُ التقيته في أمسية شعرية بتملالت، هو الشاعر "محمد منير" وقد وسمَ (ديوانه الشعري) بوَسْمٍ خليقٍ بأن يكونَ وحده قصيدة لطوله وكثرة كلماته: (حينَ استدرجتني المدن... كنتُ وحيدا)، ويقعُ هذا الديوان الشعريُّ في خمسٍ وسبعينَ صفحة، تجدُ في بعض الصفحات سبعَ كلمات فقط أو أقل، في حين تجد بعض الصفحاتِ الأخرى مملوءةً عن آخرها بالكلمات المتراصفةِ كتراصُفِ الأسنان في الفم، إلّا أنّ هذا الفمَ أبخرٌ ذو رائحة غير زكيّة، كما كانَ فم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، إذا دنوتَ منه هرولتَ من صاحبه فرارا، كي لا يصيبك برائحته الكريهة.
كذلك هذه القصائدُ إذا رأيتَ شكلها أعجبكَ انتظامها وحسنُ تراصُفِها، ولكنّك إذا قرأتها وسبَرْتَها فررتَ من معانيها الركيكة فرارَكَ من قسورة، إذ لا تجدُ فيها ما يجذبك إليه، ويحثك على الاستمرار في القراءة، إذ هي فارغةٌ جوفاء، مجرّد كلمات بعضها إلى جانب بعض.
وفي الديوان قصيدة عنونها (الشاعر) بقوله: "النيل" يقول في جزء منها:
ويأخذ أوراق العمر
أن يرسم على رأس الصفحة
نوارسَ تحبُو
صوب حدائق الحبّ
والصّحب
وبقايا القصيد
لقد قرأتُ هذه الأسطر مرارًا وتكرارا لعلّي أظفر منها بمعنى واحد يليقُ بالتأمل والتمهل في قراءته _ولو كانَ غثًّا_ ولكنني ما وجدت فيها إلا كلماتٍ منتظمة لا غير، كلمات إذا رأيتها رأيتَ شكل الشعر الحديث، وأمّا الشعر فلا.
ثم يا ترى ماذا قصد الشاعر بأن النوارسَ تحبُو؟
أنا أعلمُ أن النوارس تطير، تحلّق، تمخر عباب السّماء، أمّا أن تحبو، فهذا شيءٌ لم أسمع به ولم أره إلا في هذه (القصيدة).
ثم يقول في آخرها:
في صدري الآن
يلتقيان
وأنا أعجبُ من هذا حقّا، فكيف يلتقي في صدره معبران للنيل؟
هل صدره مفترَقٌ للطرق، وإشارات مرور؟
ولكني سبق أن رأيتُ الشاعر والتقيتُ به، وكان كمثله من الناس.
ثم إن صاحبنا هذا يُغرِقُ كثيرا في الغرابة والغموض إلى حدّ الاشمئزاز أحيانا، فلا تكادُ تنتهي من قراءة قصيدة من هذا الديوان إلّا ووجدتَ من الغمود والإبهام ما يُثنيكَ عن تتمَّتِها، ومن يدري، ربّما سبَبْتَ الشاعر في نفسك من كثرة ما ركنَ إليه من التكلّف في استجلابِ معنى غامضٍ غر مبين، كقوله مثلا:
هل أنا سفينُ الرّؤى؟
أم أنا الحاكمُ ذو الرّؤيا الورقية؟
وسرْ يا صاحبي على هذا المنوال في أكثر الديوان.
أمّا عناوين القصائد فكلها أو قل أغلبها تحملُ أسماء مدنٍ ومقاهي، وكيف لا وعنوان الديوان هو: (حينَ استدرجتني المدن... كنتُ وحيدا).
ولكيلا أكون مجحفا، وكي لا يقال: هذا ليس نقدا، فالنقد هو إبداء الجيّد والرديء على حدٍّ سواء بإنصاف، فسأقول: نعم هناك ما أعجبني في هذا الديوان، فإنّ غلافه حقًّا غلافٌ جميل، وتناسقِ الألوان جميلٌ أيضا، متقاربة مع بعضها البعض غير متنافرة.
وهنا يسكتُ لسانُ اليراعِ عن الكلام، وهنا نحطّ الرحال، لعلّنا نكملُ حديثنا هذا في أقرب وقتٍ بإذن الله. ولعلّنا نستأنف الحديث فيما سيأتي منه حول (الشاعر) مصطفى غلمان، وحول ديوانه: "قلق البارادايم".
للتواصل معي عبر حسابي على انستغرام اضغط هنا.
تعليقات
إرسال تعليق