وادي حُنَيْن
بعد أن تمَّ الفتحُ العظيم، فتحُ مكّة، وسقطتْ كِذبةُ الأوثانِ الكُبرى، وتمرَّغَتْ آنافُ الأصنامِ في أتْرِبَةِ الحَرَم، جاء نصرُ الله مُهَلِّلا بوجهٍ وضَّاحٍ وثغرٍ باسِم، وأقبلتْ أحياءُ العربِ أفواجًا على مكّة، مسلمين مُسْتَأْمِنين، آيبينَ تائبين، يأتونَ من كل فجٍّ عميق، يريدونَ رؤية رسولِ الله والإسلامِ بينَ يدَيْه، إلاّ قبيلَتَيْ هوازِنَ وثقيف، فقد وجد الشيطانُ إليهِما سَبِيلَه، فأبَتَا الوفودَ على الرسول، والالتحاق بركب الإسلام، وآزرتهما على هذا بعضُ القبائلِ الأخرى، وكان فيمن آزرهم قبيلةُ بني سعد بن بكر القبيلةَ التي كان رسول الله مُسْتَرْضَعا فيها، فعقدوا مُجتَمعين لواء ريّاسَتِهم لمالك بن عوف، وقالوا فيما بينَهم: "قد فرغَ محمّدٌ من قتالِ قومه، ولا ناهية له عنّا، فلْنَغْزُهُ قبلَ أن يغزونا".
فتجَهَّزَت كلّ هذه القبائل لقتال رسول الله وصدِّه، ومن قبلُ كانَ مالك بن عوف قد أمرَ من معه أن يَأْخُذوا معهم نِساءهم وذراريهم[1] وأهليهم، وأموالهم وكلّ ما يملكون من غَنَمٍ وَنَعَم، حتَّى يقاتل كل واحدٍ منهم على أهله وماله، فرسمَ خُطَّته للقتال، "وجعل النساء صفوفا وراء المُقاتلة، وجعل من وراء النساء الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، كَيْلاَ يَفِرَّ أحدٌ من المُقاتلين".
وعلِمَ رسولُ الله بأمر هوازنَ وثقيف، فتجهَّزَ عليه الصلاة والسّلام لحربهم، فخرج من مكّة مُتوجِّها إليهما، وكان خروجه يوم السبت السادس من شهر شوال من السَّنة الثامنة للهجرة، ومعه حينَئذٍ اثنا عشرَ ألفاً من المُقاتلة، أكثرهم جاء معهُ من المدينة يوم الفتح، وأقلُّهم قد أسلمَ حديثا بعدَه، ولا يستوي الذين أسلموا قبلَ الفتحِ والذين أسلموا بعده.
فالتقى الجيشانِ بينَ مكَّةَ والطائف، في وادٍ يُسَمّى بوادي حُنَيْن، وكانَ رسولُ الله في طليعة جيشه، يعلو ظَهرَ بغلته البَيْضَاء دُلْدُل،[2] وعليه دِرعَانِ يَتَتَرَّسُ[3] بهما، وعلى رأسهِ خُوذَتُهُ ومِغْفَرَتُه، والتَحَمَ جيشُ مالك بن عوف بجيشِ المسلمين، ودارت رحى الحرب، وحَميَ الوطيس، فأُعْجِبَ المُسلمُونَ بكثرتهم وقالوا: "لن نُغلَبَ اليومَ من قِلّة"، وما كادُوا يُكملون مقالَتَهُم ويطربونَ بها حتّى باغتهم مالك بن عوف والذينَ معه بِنَبلٍ كأنَّهُ الجَرادُ المُنْتَشِر، فتَزَعزَعتْ صُفوفُ المسلمين، وتمكَّن منهم الذعرُ فَوَلُّوا مُدبرينَ فارِّينَ من سيوف الأعداءِ وشَرَكِ نبالِهم، فَضاقتِ الأرضُ على المُسلمين بما رحُبَت، ولم يثبت في أَرْضِ المَعْمَعَةِ إلا رَهْطٌ قليل، من الذِينَ وقرَ الإسلامُ في قلوبهم، وكان على رأسِ هؤلاء رسولُ الله يعلو ظهرَ بغلته البَيْضَاء، كالغَضَنْفَرِ في شكله وهيأته، وينادي: «إليَّ أيّها الناس، إليَّ أيّها الناس» فما أجابه ولا سمعَ منه أحد، حتى سَرَّ إدبارُ المُسلِمينَ بعضَ من أسلم حديثا من كفّار مكّة، فقالوا: "الآنَ بطل السِّحرُ"، الآنَ سيُهزمُ محمّد، ويُولِّي الدُّبُر، وتَعودُ قُرَيشٌ سِيرَتَها الأولى.
كلُّ هذا وأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قابضٌ على لجامِ بغلة الرسول خشية أن تتوغَّل به في صفوفِ المُشرِكينَ أكثر، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كالصَّقرِ في السّماء، وكاللَّيْثِ في شعاب الأرض وفِجاجِها، يَدْفَعُ عن يمينه، وَيَدْفَعُ عن يساره، لا يحملُ سيفا ولا رمحا، إنّما هي دِرعٌ يدفع بها عن نفسه، لأنه صلى الله عليه وسلّم نبيُّ رحمة، وليسَ نبيُّ قتْلٍ ونقمة، وقد ولّى أكثر الناسُ عنه، ولم يبق في طليعَةِ الجَيْشِ إلاّهُ ونفرٌ قليلٌ معه، من بينهم أبو بكرٍ وعُمَرَ وعليّ، وأولاءِ الثلاثة لا يتركون النَّبِيَّ وحده ولو تخطَّفتهم مخاليبُ[4] الطير، وكان رسولِ الله على بغلته البيضاء، وهو يصْرُخُ في الناس ويقول بعْدَ أنِ انقَشَعُوا عنه: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ».
ثمّ صاح صلى الله عليه وسلم في عمِّهِ العبّاس: «نادِ الأنصارَ يا عبّاس» رسولُ الله لم يكن يُريدُ أحدا غير أنصاره، ما قال له: ناد على صناديد العرب، ولا ناد على فرسان قريش، ولا قال ناد أهلي وعثرتي، بل قال له: «ناد الأنصارَ يا عَبَّاس»، فنادى العبَّاسُ _وكان جَهْوَرِيَّ الصّوت_ وصرَخ بأعلى صوته: "يا معشرَ الأنصار، يا معشرَ الأنصار، يا أصْحابَ السَّمُرَة[5]" فأسمَعَ من في الوادي من الأنصار، فأجابوا: "يا لَبَّيْكَ.. يا لَبَّيْك"، وهل أحدٌ يُجيبُ رسولَ الله إلاّ أنصارُه، وهل أحدٌ يفدي النَّبِيَّ بأهله وروحه إلاّ الرِّجالَ الذينَ نصروهُ حينما هاجر إليهم أوَّلَ الأمر، يقولُ العبّاسُ يصفُ الأنصار حينما سمعوهُ يستنجِدُهُم: "فو الله لَكَأَنَّمَا عَطْفَتُهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا" ومن في الأرضِ كلِّ الأرضِ _يا عبَّاس_ يَعطِفُ على رسول الله كما تعطفُ البقر على أولادها إلاّ الأنصار، فجاءوهُ يلْتَفُّونَ عليه لَفِيفاً لَفِيفا[6]، يذُبُّونَ ويَذُودونَ عنه، فكأنّي أراني بينَ الأنصارِ أقاتلُ معهم يومَ حُنَيْن، وكأني أرى الرَّجلَ منهم بعدما كانَ مُدْبرا مُوَلِّياً يَلْتَفِتُ برأسِهِ يَتَبَيَّنُ صوتَ العَبَّاسِ، فيَلوي عِنان بعيره أو دَابَّتهِ يريدُ الرُّجوعَ إلى قلبِ المعمعَةِ يحمي النبيّ ويدفَعُ عنه، ولكن تمنعه كَثرةُ الأعراب المُنهزمينَ من الالتفافِ ببعيره، والتَّقَدُّمِ به نحوَ رسولِ الله، فينزلُ عنهُ بعدَ أن يَأخذَ تِرسهُ وسيفه، يَشُقُّ الصُّفوفَ ويستحثُّ الخطى إلى الرسول يُلبِّي نداء العبّاس، ويقول مِلْءَ فمه: "يا لَبَّيْكَ.. يا لَبَّيْك"، فيجتَمِعُ حوله صلى الله عليه وسلم من الأنصار بشرٌ كثير، «ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ[7]»، فاطمأنّت نفوسهم وعادوا للقتال يضربونَ رقابَ الكُفَّار، فرجَعَ كلُّ من كانَ قد فرّ، ورَجَحَتْ كفَّةُ الحربِ بالمسلمين، فكانوا في حومةِ الوغى كالأسودِ الضارية، يقتُلونَ فريقا وفريقا يأسرون، فكأنّما عناهم الشاعر حينما قال:
وفي خضَمِّ كل هذه الأحداث كان رجلٌ من مكَّة يسمّى شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قد خرجَ إلى حُنَيْنٍ مع المسْلِمينَ وهو ما يَزالُ يَرْفُلُ في شِرْكه، هوَ لم يخرج لقتال، ولا لحوزِ غنيمة، لكنه خرج ليغتالَ أفضَلَ من أشرقتْ عليهِ الشَمس، خرج ليغتالَ الإنسانية جمعاء، خرج ليطفئ السراج المنير، فقد قُتِلَ أبوهُ وعمُّهُ يوم أُحُد، فأرادَ الثَّأْرَ لهما بقتْلِهِ لنَبِيِّ الله محمّد، فترَبَّصَ بالنَّبِيِّ يُريدُ اغتِيالَهُ، فأتاه عن يمينهِ وسيفُ الشِّرْكِ في يده، فإذا به يرى العبَّاسَ بنَ عبدِ المطَّلب قابِضاً على زِمامِ بغلةِ الرسول، فأَيْقَنَ أنّه إذا دنا منهُ فإنّ العَبَّاسَ لا بُدَّ قاتلُهُ قبلَ وُصُولِهِ رسولَ الله، ثم تحَيَّنُ الفرْصَة ليأتيه عن شِماله فإذا به بأبي سفيان بن الحارث رابضٌ بجنبِ رسول الله يقاتلُ دونه، فجاءَ النَّبِيَّ من خلفهِ يُريدُ أن يَعتَريهِ بسيفه، فما كادَ أنْ يلمسَهُ حتى لمحَ شُوَاظاً[8] مِنْ نَارٍ كَأَنَّهُ الْبَرْقُ يحُولُ بينهُ وبينَ لَمسِ رسولِ اللهِ يُريدُ أن يلْتَهِمَه، فعلمَ أن الله عاصمه، ففزِعَ شَيْبَةُ ووَلَّى القَهْقَرَى، وأعلَمَ اللهُ نَبِيَّهُ بالخَبَر، فَالْتَفَتَ رسولُ اللهِ إلى شيبةَ، فوَ اللهِ ما أمرَ رسولُ اللهِ أصحابَهُ أن يقتلوهُ، وَوَاللهِ ما أشارَ لهم أنِ يأسِروهُ لأنّه حاولَ اغتيالهُ صلّى الله عليه وسلم، ولكنّه ما زاد على أن قال له: «يَا شَيْبَ، اُدْنُ مِنّي» فدنا منه شَيْبَةُ والرُّعبُ يملأُ قلبَه، فضرَبَ رسولُ اللهِ على صدر شَيْبَةَ بيدِهِ الشَّريفَةَ ضَربةً خفيفَةً وقال: «اللهُمّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشّيْطَانَ!»، يقولُ شَيْبَةُ: "..فَرَفَعْتُ إلَيْهِ رَأْسِي وَهُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَقَلْبِي.." وكَيفَ لا تحبُّهُ يا شَيْبَةَ وقد أحبَّهُ القاصي والداني، وكَيفَ لا تحبُّهُ وهو الرَّحمَةُ التِي تمشي على قدمين، لا تَتَعجَّبْ يا شَيْبَةَ، فهو نفسُه نفسه الذي قال لأهل مكَّةَ يومَ الفتحِ قُبَيْلَ أيّامٍ قليلاتٍ بعدَ أن قاتلوهُ رَدْحاً منَ الزّمن: «..اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»، فكيفَ تعْجبُ أن يعفوَ عنكَ ويدعو الله لك قائلا: «اللهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشّيْطَانَ!».
وبَعْدَ أن يَطمئِنُ قلبُ شيبةَ ينطَلِقُ لسانهُ أمامَ رسولِ اللهِ عَذْباً سَلْسَبيلا وهو يكَرِّرُ الشّهادتين في غِبْطَةٍ وسُرور، فيفرَحُ رسولُ اللهِ بإِسلامِهِ أشدَّ من فرحهِ هو بنفسه، ويقولُ له صلّى اللهُ عليه وسلّم: «يَا شَيْبَ، قَاتِلْ الْكُفّارَ!» يقولُ شيبةُ: "فَتَقَدّمْت بَيْنَ يَدَيْهِ أُحِبُّ وَاللهِ أَقِيهِ بِنَفْسِي وَبِكُلّ شَيْء"، إنّه أثرُ الإسلامِ والله، وهذا فعلُهُ، يَشْحَنُ المرءَ بشُحنةٍ من الإيمانِ تجعلهُ يواجه العالَمَ كلَّه من أجل دحضِ الباطِلِ وإعلاءِ كِلْمَةِ الحقّ، وبعدَ أن كان سيْفُ شيبةَ على المسلمين صارَ لهم، وطَفِقَ هوَ والذينَ معه يَشرَعونَ في تَضْريبِ أعناقِ الكُفَّار كل مَضرب، فولَّى المُشركونَ يهرعونَ إلى أباعيرهم[9] يريدونَ الفرارَ والنّجاةَ بأرواحهم، وشفاهُ المُسلِمينَ تلهجُ بالتكبيرِ والتهليل في بهجةٍ وحُبور، وكانَت للأنصارِ اليدُ الطُّولى والقِدْحُ المُعَلّى في نصْرِ حُنَيْنٍ، فقد أخزى اللهُ الكفَّارَ على أيديهم، وردَّ كيدهُم بسيوفهم ورماحِهم.
ها هو رجلٌ من الأنصارِ على جوادٍ أشقر، يُمسكُ عِنانَهُ بشِماله، وسَيفُهُ مصْلَتٌ في يمينه، يجولُ في فلولِ المشركينَ ويَصول، يضربُ رأسَ ذاك فيترُكُهُ جُثَّةً خامدة، ويضربُ هذا فينجو فيتركه للمسلمينَ يأسرونَه، وتتَفَرَّقُ فلولُ الكفّار في الأودية والشعاب، وتتبعهم خيلُ الله تأْسِرُ بعضاً وتقتلُ بعضا، وبعدَ أن أتَمَّ اللهُ النصرَ لرسوله يغْنَمُ المسلمونَ غنائمَ جمّة، لم يسبق لهم أن غنموا مثلها قطّ، غنائمُ لا تُعدُّ ولا تُحصى لكثرتها، فإنّ مالك بن عوف كان قد أمر قومه أن يأخذوا معهم أهليهم وأموالهم وكلّ ما يملكون، وبعد أن هزمهم اللهُ صارت كلُّ هذه الغنائمَ والأسلاب في يد المسلمين، ولكَ _يا أُخَيَّ_ أن تُسَرِّحَ قَيْدَ مخيِّلَتكَ وتَتَخَيَّلَ عدد هذه الأسلاب والغنائم، فأمر رسولُ الله بها فجُمعت في منطقة يقال لها: "الجَعِرَّانَة[10]"، وبعدَ أن فرغَ صلى الله عليه وسلم من ترتيباتِ هذه الحرب، انتظر بضع عشرةَ ليلة قبلَ أن يُقَسِّمَ ما أفاءَ اللهُ عليه، عسى هوازِنَ وثقيفَ يأتيانِ بوفدهم من أجل الصُّلح أو اعتناقِ الإسلام، حتى يَرُدَّ عليهم أسلابَهم التي أغنمها اللهُ لَه، لكنهم لم يأتوا ولم يُسلموا، فما كان أمامَ رسولِ اللهِ بدٌّ من تقسيمها بين المُسلمين.
فبدأ بعطاءِ كبارِ رجالات قُريش فأوفى لهم وأجزل، فأعطى أبا سفيان مئة من الإبل، وأربعينَ أُوقِيَّةً من الذهب، فقال له أبو سفيان حينما رآه يعطي كلّ هذا العطاء: وابنايَ يزيدُ ومعاويةُ يا رسولَ الله: فأعطى لكلِّ واحدٍ منهما مئة من الإبل، فقال له أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، لأنت كريمٌ في السلم والحرب، وكذلك أعطى عليه الصلاة والسلام عيينةَ بن حصن[11] مائة من الإبل، ولم ينسَ صفوان ابن أمية فأعطاهُ شِعبا مملوءًا نَعَما وشاء، كان رآه يرمقه، فقال له: «هل يعجبك هذا؟» قال نعم، قال: «هو لك»، وكان عطاءُ رسولِ الله له سببَ إسلامه، فإنّ صفوان ابن أمية خرج مع المسلمين ولم يكُ قد دخلَ في الإسلامِ بعد، وحينما سُئلَ عن كرمِ الرسول وعطائه قال: "ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إليّ، حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إليّ منه".
وأعطى أيضا صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ يُدْعَى حكيمَ بن حزام مئةً من الإبل، وأعطى العبّاسَ بنَ مِرداس كذلك، ومثله الأقرعُ بن حابس ذهبَ أيضا بعطاءِ رسول الله، فكانَ صلى الله عليه وسلم يَنثرُ مئاتَ الأواقِ عن يمينه وشماله بين الأعراب الذينَ شاركوا في الحرب، ولا يردُّ سائلا يأتيه، ولا يبخلُ على أحدٍ بشيء، حتى قالَ أحدهم: "إنّ محمّدا يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر"، وأيمَ الله قد صدق من قالها، فإنه يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، وكيفَ يخشاه وهو رسول الله، الجوادُ الكريمُ المعطاء، فهو عليه الصلاةُ والسلام، لا يُفكِّرُ بمنطقنا نحن، فمنطِقُنا نحنُ بخيل، ومنطقه كريم، نحنُ إذا حِزنا شيئا من مالِ الله أوصدنا عليه في بطنِ صندوقٍ بسبعةِ أقفال وقلنا له: قد جئتَ أهلكَ وأحِبّاءَك، فلا نتركهُ بعدها أبدا، وهو _بأبي هو وأمّي_ إذا حازَ شيئاً من مالِ الله تصَدَّقَ به على الناسِ وأعطاهم عطاءً غير محدود.
فها هو صلى الله عليه وسلم منهمكٌ بتقسيم الغنائمِ وتفريقها، والناسُ من حوله مُجتمعون يريدونَ من عطائه، وها هو أعرابيٌّ جَلِفٌ قادمٌ من خلفِ الجموعِ، يشقٌّ الصفوفَ بيديه الكبيرتين حتّى إذا وصل إلى رسول الله يَجْذُبُهُ جذبةً شديدةً من بُرْدِهِ[12]، وكان عليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، حتى أثّرت حاشيةُ الرداءِ في صفحة عنقه، وقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ، فولَّى الأعرابيُّ مسرورا، وما من أحدٍ في المعمورة أسعدُ منه.
لقد أخذت قريشٌ من هذه الغنائم أموالا كثيرة، وأخذت قبائلُ العربِ وأحياؤها كذلك الشيء الكثير، فقد كان رسولُ اللهِ جوادا كريما، لكنّه صلّى الله عليه وسلم لم يُعطِ الأنصارَ من ذلكَ شيئا، وهمُ الذينَ بفضلهم فقط "تَبَدَّلَ الفرارُ انتصارا"، نعم ما نالَ الأنصارُ من هذا كلِّهِ شيئا، ليسَ بخلاً منه، أو آثرَ عليهم أحدا غيرَهم، لا وكلاّ، حاشاه أن يكونَ بخيلا، لكنه صلى الله عليه وسلم فعلَ ما فعلهُ لحكمة، ذلك أنّه رأى أن يتألّفَ قريشا وأحياءَ العرب بتلك العطايا، ويُرَغِّبَهم في الدين حتى يَحسُنَ إسلامهم ويثبت، أو يرجعوا إلى أقوامهم فيدْعُونَهُم إلى الإسلام، ولعمرُ اللهِ قد نجحَت سياسةُ رسولِ الله، وفي هذا يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه المُبارك فقه السيرة: "إنّ في الدنيا أقواما كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تُهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظلّ تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها آمنة! فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهشّ له".
ولهذا السبب تألَّفَ النَّبِيُّ قريشا وأحياء العرب بتلك العطايا السَنِيَّة، حتّى يُحَبِّبَ إليهم الإسلام، فهو قد نظرَ بعينِ بصيرته إلى المدى البعيد، ولكنَّ شباباً من الأنصارِ لم ينظروا إلّا في ما تحتَ أيديهم، فلم يفهموا كُنْهَ هذه السيّاسة، ولم يروا ما وراءها من الحكمة وحسنِ التدبير، حتّى قال أحدُهم: "يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ الله، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ"، وظلت هذه القَالَةُ[13] تتَنَقَّلُ بين شبابِ الأنصار حتّى بلغتْ مَسْمَعيْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فذهبَ سعدُ إلى رسول الله فَقَالَ له: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ لهُ رَسُولُ اللهِ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟» رسولُ الله يريدُ أن يتأكَّد من رأْيِ سعد في هذا الأمر، فسعدُ من وُجهاءِ الأنصار، فقَالَ سعدُ: "يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي"، أرى ما يَروْنَه، وإن قالوا شيئا قلتُ مثلهم، فأمره الرسولُ بجمعِ شيوخِ الأنصار وشبابهم حتى يُكلِّمهم في هذا الأمر، أرادَهُ صلّى الله عليه وسلم اجتماعا استثنائيا مُغلَقاً مع أنصاره، لا أحدَ غيرَ أنصارِه، كأنَّ رسول الله ما توقَّعَ منهم أن يقولوا ما قالوه، فاجتمعوا ينتظرونَهُ في حظيرة، فبزَغَ عليهم صلى الله عليه وسلم، وأجال النظر فيهم وأداره، وحينَ رأى الرؤوسَ مشرئبَّةً إليه، تُريد أن تسمَعَهُ وأن تراه، وقف فيهم خطيبا صلّى الله عليه وسلم، وقال بعد أنْ سَمَّى الله وحمده:
«يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم»؟
«ألم آتكم ضُلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي، وكنتم عالةً فأغناكم الله بي».
وسَكَتَ رسول الله لحظة، كأنه يُحِبُّ أنْ يسمع منهم جواباً وردّا، ولكن لم يُجِبْ منهم أحد، بل ما زادوا على أن قالوا: الله ورسولُهُ أمنُّ وأفضَل، حينها قال:
«ألا تجيبوني يا معشرَ الأنصار؟».
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل، لله ولرسوله المنّ والفضل.
فقال صلّى الله عليه وسلم: «أَمَا وَاللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا[14] فَآسَيْنَاكَ».
وحين سمعَ الأنصارُ رسولَ اللهِ يقولُ هذه الكُلَيْمات، علا النحيبُ والبكاء، وسُمعَ نشيجهم وصراخهم، يبكونَ على أنفسهم وعلى ما بدرَ منهم لرسول الله، وقالوا: بلِ المِنَّةُ لله ورسوله، بلِ المِنَّةُ لله ورسوله.
ثم تابع رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلامه قائلا: «أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ من أجل لُعَاعَةٍ[15] مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رحالكُمْ؟ فوَاللهِ لَما تنقلبون به خير مما ينقلبون به».
إن رسول الله يعلمُ أنّ الأنصارَ مُسلمون حقا، ويعلمُ أنهم يحبُّونَ الله ورسولهُ أشدَّ الحب، ويعلمُ أنهم يَفْدونَ رسولَ الله بأرواحِهِم وأهليهم وأمْوالِهِم، لهذا تألَّفَ أقواما وَوَكَلَ الأنصارَ إلى إسلامهم، لأنه يعلَمُ أيضا أنَّهُم لا يُبَدِّلُونَهُ بشيءٍ ولو بدَّلَتِ الدُّنيا كلُّها.
وحينَ يسمع الأنصارُ هذه الكلمات يَبْكونَ وتفرّ الدُّموعُ من أعينهم فرّا، لشِدَّة الحبِّ والحنانِ اللَّذان ينبعانِ من بين حروف كلماتِه، كأنما غمسها في بحرٍ من العاطفَةِ والرِّقَّةِ قبل أن يَلفِظَها من فمه صلّى الله عليه وسلم.
آهٍ يا رسولَ الله، فليذهبوا بالدنيا كلها، بزخرفها وزينتها، بكنوزها وملذّاتها، ولكن فليتركوا لي رسول الله، لا أريدُ أحدًا إلا رسولَ الله ولا أبغي به بدلاً:
ثم يَعمُّ الصمتُ مرّة أخرى لا يقطعه إلاّ نشيج البكاء والنحيب، ويُتابع النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كلامه، ويصرخ هذه المرّة بأعلى صوته قائلاً:
«وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت امْرَءًا من الْأَنْصَار، وَلَو سلك النَّاس شعبًا[16] وسلكت الْأَنْصَار شعبًا لَسَلَكْت شعب الْأَنْصَار».
إنّه الحبّ والوفاءُ في أبهى تجليّاته وأسمى معانيه، رسولُ الله يؤثرُ الأنصارَ على الناسِ جميعا، يا ليتني منهم، يا لتني كنتُ أنصاريّاً، لأنعمَ بكل هذا الحبِّ الذي يكنُّهُ نبيُّ الله لهم، طوبى للأنصار، طوبى لهم.
ويسْتأنِفُ صلى الله عليه وسلّم حديثه قائلا:
«وإنكم ستلقون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
سُتُظلمون أيها الأنصار ويذهبَ بعضُ حقّكم، ولكن فلتصبروا، فإن موعدكم مع رسول الله عندَ الحوض بين يديْ أعدلِ العادلين، فَيَحْصُلُ لَكُمُ الِانْتِصَافُ مِمَّنْ ظَلَمَكُمْ وتنالونَ الأجرَ والثوابَ على صبركم أيها الأنصار.
وبعدَ هذا يختمُ صلى الله عليه وسلّم خطبته بهذا الدعاء الذي ينمُّ عن صدقِ عاطفته نحوَ أحبّائه من الأنصار، فَيصرخُ فيهم بأعلى صوته داعيا لهم يقول:
«اللهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ».
وبهذه الكلمات بكتِ القلوبُ قبل المُقل، واخضَلَّتْ لِحَى القومِ من دموعهم السيّالة، وواللهِ إني لأشعر أن رسولَ الله قد بكى قلبُهُ لبكاءِ أنصاره، وإنْ لمْ يذرف دموعه الشريفة، وبعدَ أن كان شباب الأنصارِ يقولون: "يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ الله، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ"، صاروا يقولونَ بعدما سمعوا كلامَ رسول اللهِ، وفقِهوا الحكمة من تقسيمه للغنائم:
"رَضِينَا بِرَسُولِ الله قَسْمًا وَحَظًّا".
"رَضِينَا بِرَسُولِ الله قَسْمًا وَحَظًّا".
***
تعليقات
إرسال تعليق